أنهكته المحاولة .... فأعرض عنها .... وانهار تحت النافذة .... يلهث بشدة .... والعرق الغزير يتصبب من جبينه .... هدأت أنفاسه رويداً رويدا .... لكنه هب واقفاً فجأة .... وهو يبحث بعينيه عن قطعة الحجر الجيري .... حتى وجدها .... فالتقطها وخط بها على جدار الزنزانة المواجه للنافذة علامة أخرى .... أخذ يحصي ما خطه من علامات .... 774 علامة .... تقابل 774 محاولة فاشلة للحرية .... !!!
تسللت عيناه تنظران خلال قضبان النافذة .... تتطلع بأمل للطريق حيث يتداخل البشر بعشوائية .... ازدرد لعابه ثم أمسك القضبان الحديدية بقبضتيه بقوة شديدة .... أخذ يجذبها بعنف .... ينتفض جسده بقوة وهو يحاول باستماتة خلع القضبان .... ويتوقع أن تنهار النافذة فجأة في أي لحظة .... وبدا له أن محاولته بائسة كلما مرت الدقائق ثقيلة ولم تنهار القضبان بعد .... !!! .... وزاده هذا إصراراً فأخذ يجذبها بعنف أكثر وأكثر .... لكن قضبان النافذة كانت أقوى من بأسه .... حتى أنهكته تماماً وأعيته المحاولة .... فأخذ يضرب رأسه بالقضبان في يأس ....
تجمدت نظرته على الحرية التي تحلق هناك في الفضاء .... خلف القضبان .... انحدرت دمعة حارة على خده في بطء .... وأخذت تشق طريقها عبر ملامحه الجامدة .... حتى أحس بمرارتها تبلل شفتيه .... تراجع يجر قدميه في تهالك حتى الجدار المقابل للنافذة .... خط علامته الجديدة التي تقطر بالفشل .... وبصعوبة أدار وجهه للنافذة وإلتصق بالجدار بظهره .... وترك جسده يحتك بالحائط وهو ينهار جالساً في إعياء .... تساقطت عبراته والمرارة تملأ أعماقه .... دفن وجهه بين ركبتيه اللتين أحاطهما بذراعيه .... أخذ ينتحب بشدة ويجهش بالبكاء .... يجتر ذكريات محاولاته الفاشلة للحرية .... ودموعه تبلل ملابسه المهلهلة .... وكل ما يشعر به قشعريرة باردة تجتاح أوصاله .... والبرد القارص !!!!
وحينما رفع رأسه من مدفنها .... عبرت أشعة الشمس الغاربة قضبان النافذة لتسقط على وجهه .... رفع عينيه في تخاذل يتطلع لقرص الشمس الذي اكتسى بحمرة الغروب .... ودب النشاط في جسده فجأة .... فانتصب واقفاً .... ونظر للنافذة بتحدٍ واثق .... كأنما ينظر لعيني وحشٍ كاسر .... يحول بينه وبين حريته .... اتجه نحوها بخطواتٍ ثابتة .... مد ذراعيه وأحكم قبضتيه حول القضبان .... ثم أخذ يجذبها بعنفٍ شديد .... ولم تنهكه المحاولة بمرور الوقت بل ازداد إصراراً وعنفاً وهو يستميت في جذبها بصلابة .... حتى أسدل الليل ستائره .... وجسده لا يزال يهتز بقوة جاذباً القضبان بقبضتيه الداميتين !!!
أيقن أن لا سبيل للحرية .... من خلال أنفاسه اللاهثة المتلاحقة .... ازدرد لعابه بصعوبة .... وعبر عينيه الدامعتان بالعرق الغزير .... تطلع إلى النجوم .... والشجن يملأه حزناً عميقاً .... عاد يجر أذياله ليخط على الجدار علامةً جديدة .... نظر لمئات العلامات الجيرية البيضاء على الجدار المتسخ .... بدا له كأنه بدأها منذ ألف عامٍ مضت .... لم يعرف خلالها سوى اليأس والمرارة .... والحلم بالحرية .... والتطلع عبر القضبان !!!!
في طريقه لإنهيارٍ آخر .... برقت عيناه ببريقٍ مفاجئ .... وقد عزم على أن ينال حريته أخيراً .... خلع حزامه الجلدي .... أحكم ربطه بأعلى إطار النافذة على شكل أنشوطة .... لفها حول رقبته .... أحكمها .... ثم ترك جسده يتهاوى معلقاً في النافذة .... كان يعرف دائماً أنه لن ينال حريته إلا عبر تلك النافذة .... لمحت عيناه علامات الحائط الجيرية فأغمضها .... أحداث حياته المريرة تمر أمامه في سرعة وتلاحق .... لم يحاول المقاومة حتى دوت بين جدران الزنزانة صوت فرقعة مكتومة .... أعقبها تحطم فقراته العنقيه .... وفجأة هوت النافذة بجسده ليستقرا على الأرض .... وتسللت عبر الفراغ الناشئ نسمات الليل البارده .... ولم تجد ما ترطبه .... سوى جثة هامدة .... تكومت بسكون .... على أرضية الزنزانة الصلبة .... بجوار نافذة محطمة .... وتحت جدار يحمل علامات جيرية مبهمة !!!!